قبل أن يصعد للسماء، قرر مارادونا أن يخوض مغامرة جديدة. كان الأسى المتولد من فشل بلاده في مونديال روسيا يأكل حشاشة قلبه، حتى الخمر التي عاقرها لعقود لم تستطع استنقاذه من تلك الخيبة. والحقيقة أنه كان على شفا حفرة من الإفلاس أيضاً وذلك منبع أساه الأكبر، فكان كلما تذكر ديونه للطليان؛ لعن نابولي وأيامها.
قلب في دفاتره فوجد برقية تحمل رسماً فرعونياً، فتذكر على الفور الإطراء الغريب الذي ذيل به أحد أعضاء اتحاد الكرة المصري برقية أرسلها له في عيد ميلاده الـ55: «أنت لو كنت عندنا في مصر، كان لازم نعملولك مقاااااام».
طلب مارادونا الرقم المصري في آخر البرقية، ولم يطل انتظاره حتى أتاه الرد على الجانب الآخر: جمال علام معاك، مين معايا؟
احتاج مارادونا بعض الوقت ليقنع رئيس الاتحاد أنه هو حقاً لا معاكسة، صحيح أنه ظل متشككاً لبعض الوقت لكن ذكر البرقية قضى على كل شكوكه وزاد اضطرابه. تحدث الرجلان عن صعوبات الحياة والديون والعمل، عن غلاء الويسكي وتعويم الجنيه، وعن آخر سطر في البرقية.
ضحك علام من رخص التفاح، لكنه لما تثبت من جدية مارادونا بدأ يفكر في الأمر كسبوبة محتملة. اتفق الرجلان على إذاعة الخبر وتعميمه. مارادونا مصري الأصل من جهة جد جدة والده المهاجر، وله نسب شريف، وقد عاد بعدما أضناه الشتات يبحث عن أصله ويعمل بنسبه، خصوصاً بعدما فشلت زيجاته وتجاربه التدريبية كذلك.
ظلت قصة مارادونا تتردد عبر برامج التوك شو والراديو وفي الصفحات الأولى للصحف وأغلفة المجلات بإيعازٍ من رئيس الاتحاد وصبيانه، بين ساخرٍ ومتشكك وبينهما معاً. لكن الخطة التي رسمها علام وضعت ذلك في الحسبان ولم تأبه له. ذكر علام لمارادونا اسم مجدي عبدالغني فلم يبد على وجهه أي أمارات المعرفة، أخبره أنه صاحب هدف وحيد لمصر في كأس العالم أحرزه من ركلة جزاء في مباراة انتهت بالتعادل، وصار يعامل على إثره معاملة القديسين: «كل ده عشان جون ضربة جزاء، ما بالك بقى وأنت جايب جون بإيد ربنا؟»
يبحث الناس في مصر عن البركة والسر الباتع، من أفقر فقيرٍ في مصارين الصعيد وحتى رؤساء الأندية وأرباب الملايين، ويتلمسوها في كل ما له قناة اتصال خاصة مع العالم العلوي، سواء في ذلك الولي وبهيمة الأنعام. هكذا شرح الخطة جمال علام وأعجب بها الأرجنتيني ذو الأصول المصرية على الفور.
خرج مارادونا على الناس بجلبابٍ أبيض وعمامة سماوية، وحول عنقه مسبحة من 1000 حبة. سرد القصة كيفما اتفق، ثم بدأ يشرح للناس سر ولايته، «لما كانت الكرة في السماء، وكنت أنا في الأرض، سمعت صوتاً يقول اقفز؛ فقفزت. كانت يدي بجانبي، وفجأة وجدتها في السماء، ووجدت الكرة في المرمى، مكانتش إيدي، كانت إيد ربنا».
هلل الناس لما سمعوا، من كان منهم حاضراً بجسده ومن كان حاضراً أمام شاشة التلفاز، تسلطن مارادونا وتدروش، وتماهى مع القصة بحركات رأسه العجيبة: «أعرف أني لم ألعب لقطبي تلك البلد الأهلي أو الزمالك، ولكن هكذا يكون الأولياء، لا يجب أن يحسبوا على جانب، إنهم يسمون فوق كل اشتباك، حتى يكون الإجماع عصاهم التي يتوكؤون عليها في سبوبـ.. أقصد في طريقتهم. إنني أعرف أن تلك البلد أخرجت عدداً من اللاعبين القريبين من الله مثل الشيخ طه، لكن أحداً منهم لم يصل لمنزلة الولي، أكشفها أمامكم الآن بالأمر المباشر أنني ولي كرة القدم في هذا الزمان».
أعلن مارادونا أنه مستعد لاستقبال الناس في زاويته، بعدما تكفل علام بأمر الأوراق والتراخيص، وأصبحت طريقة السيد المارادوني طريقة رسمية مسجلة قانونياً في مشيخة الطرق. كانت كرامة «إيد ربنا» كفيلة باجتلاب عدد لا بأس به من المجذوبين، أصحاب الاستعداد الفطري لاتباع أي ولي، خصوصاً إن كانت لهم ميول كروية.
صحيح أن تلك الكرامة لم تكن ترقى لمستوى كرامات السيد البدوي الذي دفع رجلاً شكك في ولايته في صدره فأبعده عن داره مسافة 60 سنة، أو سيدي إبراهيم الدسوقي الذي أتته امرأة تشكو تمساحاً ابتلع طفلها فنادى في التماسيح أن من ابتلع الطفل فليخرجه، فأخرجه التمساح على الفور. لكنها كانت كفيلة بتأسيس الطريقة.
لكن الأتباع يحتاجون للتعاليم، فمن أين لهم بها؟ لم يحر مارادونا كثيراً، فالتعاليم موجودة منذ سنين أنشأها أتباع الكنيسة المارادونية في مدينة روزاريو الأرجنتينية في عيد ميلاده الـ38، لكنها بحاجة إلى «التمصير» بعض الشيء، حتى تلائم الأتباع الجدد، وعددها 10 وصايا:
افتتحت الزاوية، وبدا المقام حولها ساحراً تضيئه الأنوار السماوية، وعند اليد المرفوعة مصباح ضوؤه شديد، يتسابق الزوار للمسه من بين تعاشيق الخشب والتعلق بأستاره، وجرت الأمور كما خطط لها.
«أبانا، وهو حقًا لنا، دييغو الذي في الأرض
لتتقدس يدك اليسرى، انثر سحرك علينا
لتذكر أهدافك في الأرض والسماء
امنحنا فرح اليوم، هذا اليوم
واغفر لهؤلاء الصحفيين، كما غفرنا لمافيا نابولي
لا تدعنا ندنس كرة القدم، واحمنا من الشرير».
صار المقام في مدة وجيزة قبلة للمريدين على اختلاف طبقاتهم وطلباتهم. كان غالبية زوار النهار من العامة، كالآباء والأمهات الذين ملوا الذهاب لاختبارات الأندية بلا فائدة، ويريدون لأبنائهم أن يصيبهم شيء من كرامة السيد الولي؛ طريق مختصر يوفر عليهم جشع السماسرة ويقيهم العقود المضروبة والوعود الزائفة، فيصيروا لاعبين محترفين، في الأهلي أو الزمالك، لا يهم. المهم أن يحصلوا على عقد في أحد الأندية الكبرى وينتشلهم من الفقر المدقع. كان هؤلاء يرمون بالأموال والعطايا على التمثال المذهب واليد المرفوعة فوق الرأس، بعضهم كان يلقي بالتيشرتات والكرات، باعتبار أنهم قادمون لزيارة أسطورة كروية حية.
وفي هدأة الليل، قد تجد لاعباً لامعاً قد مضت سنون مجده، وجاء يرجو الولي أن يعيده إلى المشهد عبر أي صورة، ولو في برنامج توك شو «محندق». يتسرب الخواص وعلية القوم، من لاعبين وأعضاء الاتحاد وممثلي الأندية ووكلاء اللاعبين والحكام أيضاً، كل بقائمة رغباته التي لن يبت فيها إلا سيدي المارادوني نفسه بالطبع، وعلى قدر الهبة تكون المنحة والمكافأة.
والحقيقة أن مقام سيدي مارادونا لم يكن سوى ستارٍ لتلك العمليات التي كانت تتم قبل ذلك «من تحت الترابيزة»، ثم تفوح روائحها وتزكم الأنوف. أما الآن فهم خدام المقام وسدنته، شأنهم في ذلك شأن كثير من الكتاب والممثلين والشخصيات العامة، الذين لا يخجلون من إعلان اتباعهم لشيخ طريقة بعينه وقيامهم على خدمته. أما مارادونا فقد أدى دوره على أتم وجه، إذا خرج للناس أو إذا قبض عنهم. يمد لهم مسبحته السماوية ذات الألف حبة ليتشبثوا بها ويقرؤوا صلواتهم الكروية التي لا شك ستصله ويفحصها، وهو في سكرته لاهٍ يلعب، حتى أصابه مرض الموت وعاد لبلاده ومنها إلى السماء.
# رياضة # دييجو مارادونا # كرة القدم العالمية # كرة القدم المصرية